كلمات المشاركين بالمؤتمر

معالي الدكتور طارق متري - رئيس مجلس أمناء مؤسسة الدراسات الفلسطينية

الحرب على غزة ومستقبل القضية الفلسطينية

تجتمعن بظل المعاناة الهائلة للشعب الفلسطيني في غزة وثباته في ارضه، رغم هولها بفعل محاولات القضاء على وجوده أو تهجيره...غزة تولد من النار كما يقول محمود درويش، واهلها ضحايا جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية...بل ابادة جماعية اي اعمال تندرج تحت اتفاقية الابادة الجماعية رأت محكمة العدل الدولية انها جديرة بالتصديق مما سوغ التدابير المؤقتة والاحترازية المتضمنة في قرارها كما نشهد...وبالتزامن مع العنف الواسع والمنقطع النظير النازل على غزة...تعرض فلسطيني الضفة الغربية لاعتداءات متصاعدة من قبل المستوطنين الذين يحظون بدعم الاجهزة العسكرية والامنية الاسرائيلية، أكان ذلك من خلال غض النظر أو التواطئ أو المساندة المباشرة.

ورغم ضراوة الحرب على الشعب الفلسطيني بات جلياً وحتى الان ان تهجير اهل غزة غير مستطاع رغم كل الاهوال وذلك بقوة اصرار الغزاويين على البقاء في ارضهم في ضوء ما حفرته في ذاكرتهم المجازر التهجيرية السابقة ومرارة اللجوء، لكن التدمير الذي بلغ حدوداً لم نعرف نظيراً لها، على صعيدي قتل البشر وهدم الحجر...يستمر بلا توقف ويهدف الى جعل قطاع غزة غير صالح للعيش.

بالمقابل لا تزال الضغوط المعنوية والسياسية قاصرة دون وضع حد للعدوان وفرض وقف اطلاق النار...لكننا نسمع كلاماً كثيراً عن المستقبل...عما بعد غزة والعملية السياسية التي ستطلق بعد انتهاء الحرب...فإلى القول الملتبس او الذي يكتنفه الغموض حول حل الدولتين والذي يتردد هنا وثمة...يبدو الاهتمام بلون من التطبيع بين اسرائيل والدول العربية اولى عند الولايات المتحدة من وقف الحرب والعمل الجاد من اجل الحل المذكور ويدفعنا ذلك الى الخشية من ان يأتي الوعد الجديد بدولة فلسطينية أو استعادة وعود قديمة لم يتحقق منها شئ...وهماً لا يعيش طويلاً أو ذريعة للتطبيع المذكور.

لسنا اليوم امام تصديق الوعود وتوقع الوفاء بها، بل امام اختبار حقيقة المواقف العربية والدولية، ولعل المدخل الى ذلك هو الضغط الفعلي على اسرائيل لإرغامها على وقف النار وتبقى الأولوية، بل تزداد حراجة واهمية، لبناء وحدة الشعب الفلسطيني الوطنية وتحقيق شرعية تمثيل شامل له صحيح ان الصراع على فلسطين لم يعد مجرد نزاع منخفض الحدة توليه الدول العربية والدول الغربية المؤثرة اهتماما ثانويا وان القضية استعادت حيويتها في قلب الواقع العربي والدولي وان التضامن الفعلي قادر ان يغير هذا الواقع ولو جزئيا الا ان التعاطف الشعبي في غير بلد عربي وغربي، والذي جليا، لما يحرج الحكومات او يضغط عليها بقدر كاف.

ولا يخفى على احد ان المطالبة بوقف الحرب تتسع وسط الراي العام في العالم كله لكنها لم تصل بعد الى حد التأثير الحاسم على سياسات الحكومات، ولم يتوقف الامر لدى أحرار العالم عند المطالبة بوقف اطلاق النار، بل ظهرت اشكال من الدعم الشعبي الحقيقي مع الشعب الفلسطيني في محنته وفي مقاومته الاحتلال والاستيطان.

لكن الخفاق في وقب الحرب، وحتى الان يدعو الى تفكير يتجاوز تكرار الكلام المألوف عن نفوذ اسرائيل في الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية، ووضع العدوان على غزة تحديات جديدة على مستويات القضية الفلسطينية كلها، الاخلاقية والقانونية والسياسية وكشفت الحرب بطريقة تبدو أوضح في اذهان الكثيرين حقيقة الاستعمار الاستيطاني في تهجير المستعمر ومواصلة العمل للقضاء على وجوده كما طهرت ممارسة سياسة القوة بلا هوادة نتاجا لجدلية الصدمة والسعي لتأكيد التفوق.

رأينا المجتمع الاسرائيلي وكانه قبيلة موحدة وكما في الازمات الكبرى، وحدته عصبية مقصيه او مهمشة لأي راي مخالف وطغت غريزة الانتقام والثأر المصرة على ان يعاقب السكان الأصليون دون تمييز على ما جرى يوم 7 تشرين الأول / اكتوبر فالعقلية الاستيطانية لم تسلم يوما بوجود من بقى في ارضه، اي على اجراء من فلسطين التاريخية واشترط تسامح الدخيل مع وجود الأصيل سلوكا طبعا من قبله لا يتقبل المحتل اي مظهر قوة يظهرها السكان الأصليون يرد عليها بالعقوبات الجماعية يبدأ ذلك بهدم بيت عائلة من يقدم على عملية مسلحة ضد الاحتلال ومعاقبة القرية او المدينة التي خرج منها مقاومون او إغلاق المناطق المحتلة برمتها وصولا الى تدمير قطاع غزة وجعله غير صالح للحياة.

في المقام الاول يعتمد الاحتلال على العنف واي ثوان في ممارسته يؤدي الى اثارة المخاوف في مجتمع المستوطنين ما يضطر الدولة الى استخدام العنف اضعافا مضاعفة فتعبأ كل الطاقات لصالح المعركة بوصفها ردا على تهديد وجودي والتهديد الوجودي يشمل الوجود كله وتنتج التعبئة الشاملة نوعا من النظام الشمولي الذي يحول المواطنين الى مجرد مقاتلين.

ولا يمارس الثأر والانتقام لإرضاء كبرياء المحتلين وشعورهم بالتفوق بل يسعى الى تلقين الفلسطينيين وجيانهم درسا لا ينسى فلا يكون الأذى الكبير للاحق بالمدنيين الفلسطينيين عرضيا او جانبيا بل هو من اهم اهداف الحرب ما يؤدي حتما الى الابادة بتعريفها الدولي ابعد من ذك تصبح كل الممارسات مباحة ، بما في ذلك التفنن في الكذب وشيطنة الاخر، والاستخدام المغرض لاستعارات المحرقة النازية التي وقعت في مكان وزمان اخرين وحضارة اخرى لعلنا نتذكر ان جنودا اسرائيليين سمعوا وهم في طريقهم الى غزة يقولون انهم يشعرون بانهم يدخلون الى معسكر اوشفتس لمحاربة النازيين فأساءوا لا لضحاياهم فحسب بل لضحايا النازية ايضا.

على صعيد اخر اغنى به العلاقة بين الدول العربية وقضية فلسطين اكدت الحرب على غزة ما سبق ان كشفه حصار بيروت عام 1982 وحصار المقاطعة في رام الله عام 2004 وحرب 2006 على لبنان والحروب المتتالية على غزة وهو ان قضية فلسطين قضية كل دولة عربية على حدة تتأثر بها بعض الدول اكثر من غيرها ولكنها مهما كان من امر ذلك قضية العرب جميعهم بوصفهم عربا فالرأي العام العربي متضامن مع فلسطين وهو رافض لاي تطبيع مع اسرائيل ربما صار هذا التضامن بين

الشعوب خميرة للمستقبل كما اصبح بعد حرب 2009 على غزة ولكنه في حد ذاته لا يغير على نحو فوري سلوك الحكومات الناجم عن شبكة علاقات تربط كل نظام على حدة في علاقات اقليمية ودولية، وان اضطر احيانا الى مسايرة التعاطف الشعبي مع الفلسطينيون.

ومن المفيد ان ننظر الى الفرق بين حركات التضامن الانساني مع اهل غزة في بعض الدول الغربية والتي تتصاعد ولا تتراجع وبين فورات الغضب تعندنا التي تعلو ثم تخبو بفعل الخوف من تبعات المشاركة في احتجاج شعبي مثابر ففي بعض البلدان يبدو الاحتجاج القوي شبه محظور لا زالت بعض الدول العربية غير مستعدة لمراجعة مواقفها ومراعاة مشاعر شعوبها فهناك دول غير راغبة في التخلي عن فكر السلام المنفرد مع اسرائيل من دون حل عادل لقضية فلسطين.

اما على مستوى العلاقة بين اسرائيل والقوى المتحالفة معها في الغرب ولا سيما الولايات المتحدة الأميركية تبين الحرب على غزة انها تقوم على المصالح ولكنه لا تقتصر عليها وقد شهدنا سلوك المؤسسات الاعلامية الكبرى في التعامل بمعايير مزدوجة ليس فقط مع القضايا السياسية بل حتى مع الامور الانسانية مثل معاناة الفلسطينيين والاسرائيليين وسوف يلاحقها عار اشاحة النظر عن الجريمة لمدة طويلة وان فرض عليها استمرار حرب الابادة نشر اخبار اكثر توازنا في الفترة الاخيرة.

عملت اسرائيل بقدر من النجاح على تعزيز رؤيتها للمنطقة وتصنيفها الاصدقاء والاعداء بما في ذلك شيطنة مؤسسات اهمية مثل وكالة غوث اللاجئين ودولا ومجتمعات بعينها ومؤسساتها الجامعية والاعلامية الى درجة تخوين من يخالفها او معاقبته وثبتت إسرائيل في علاقتها مع الدول الغربية ولا سيما الولايات المتحدة مصالح مشتركة لا تقتصر على تلقي الدعم لأنها بنت شبكة علاقات قرار بحيث تكون قادرة على ان تفرض على دول الغرب مواصلة دعمها على الرغم من الاختلاف في الرؤية.

من ناقل القول ان للدول الكبرى مصالح واهواء متنوعة في المنطقي وان اسرائيل تعد حليفا مستقرا وقوة عسكرية رادعة لكن الحكومات العربية ان استجابت لإرادة شعوبها ولو كان ذلك لأسباب داخلية لا علاقة لها بفلسطين فسوف تصطدم مع تصورات اسرائيل لمستقبل المنطقة ويمكن عندها ان تصبح صداقة اسرائيل عبئا على الدول الكبرى في المنقطة ولو كانت الدول العربية قادرة على الاتفاق على موقف عربي مشترك في التعامل مع الولايات المتحدة في قضية فلسطين وغيرها من القضايا الاقليمية عوض التنافس فيما بينها لكانت قادرة على الحد من التأثير الاقليمي والدولي الاسرائيلي.

واليوم اعادت عملية 7 تشرين الاول / اكتوبر وحرب الابادة الاسرائيلية التي شنت على غزة القضية الفلسطينية الى الواجهة والى جدول الاعمال الاقليمي والدولي ولكن اسرائيل تسابق الزمن في سعيها للحؤول دون استمرار تلك العودة وتواصل اسرائيل الحرب على الغرم من اتساع القناعة لدى الحكومة الاميركية بعدم جدوى مواصلة التدمير بعدما لم يعد هناك ما يدمر فضلا عن امكانية استنزاف اسرائيل رصيد التعاطف معها ولا تستطيع دولة الاحتلال مواصلة حرب طويلة دون اعتماد كبير على ادعم الامريكي مما يزيد قدرة الولايات المتحدة على الضغط على اسرائيل ولكنها لا تفعل بل تكتفي بالنصح والانتقاد الخجول.

بناء على كل ذلك تجدنا امام غير احتمال بالنسبة لمستقبل القضية الفلسطينية سوف تحاول اسرائيل وحلفاؤها فرض ترتيبات سياسية جديدة تبدأ من ادارة غزة على نحو يبعد الشعب الفلسطيني عن ممارسة حقوقه الوطنية اكثر مما ابعدته اتفاقيات اولو واذا فرض هذا الترتيب الجديد فسوف يمر الوقت ايضا كما مر منذ تلك الاتفاقيات بتعود مراحل انتقالية جديدة واستيطان لا يبقى اثرا لاي احتمال النشوء دولة فلسطينية وانتخابات اسرائيلية تتلوها انتخابات اميركية وصراعات على سلطة بلا سيادة.

اما الاحتمال الثاني فهو الا تتجاهل المنظومة الدولية والاقليمية الثمن الفادح الذي دفعه الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والجحيم الذي عائه فلا تذهب تضحيات الشعب الفلسطيني سدى بل تؤدي الى تشكل قيادة فلسطينية موحدة تشمل فصائل المقاومين والوطنيين المستقلين في اطار منظمة التحرير مصرة على الحل العادل ومستدعية دعم الدول العربية ومستندة الى رصيد المعنوي كبير لا يمكن تجاوزه اقليميا ودوليا.

إن اجدى ما يمكن ان تقوم به جميعنا كل من موقعه وانطلاقا من القيم التي يؤمن بها هو التضامن الوطني والانساني لتخفيف معاناة الناس في غزة والعمل على التصدي لدعاية حرب الإبادة الاسرائيلية وافتراءاتها والضغط على القوى السياسية الفلسطينية المركزية لكي تأتلف في قيادة موحدة في اطار منظمة التحرير بحيث تمنع ذهاب كل هذه التضحيات هدرا باستثمارها لصالح تمرير ترتيبات ما يسمى اليوم التالي من دون حل عادل لقضية فلسطين يضمن عدم تكرار مثل هذه الجرائم.